1.1 النصّ الروائي والنصّ الشعري.
هناك حساسية مفرطة في أوساط الإنتلجنسيا العربية تجاه الأعمال النقدية التي تحتفي بالأعمال الإبداعية الناجحة، وخصوصاً إذا كانت هذه الأعمال خليجية، إذ سرعان ما تلفّق الحكايات الغيورة، وتشنّ على الناقد حملات ضروسة، ستؤثّر بلا شك على قراءاته المستقبلية، إذ إن اللغط قد يذهب من الساحة الثقافية، إلاّ أنه يبقى أبداً في ذهن الناقد الذي هو مثله مثل الآخرين كائن من لحم ودم ومشاعر وأعصاب، قد يؤثّر فيه نصّ ما فيتفاعل معه بطريقة تختلف بشكل جذري عن تفاعل النقاد الآخرين معه، هذا إذا كان ثمة نقاد تناولوا العمل أصلاً.
وأسوق هذا الكلام وأنا بصدد تحليل نصّ "الديزل" للشاعر والكاتب ثاني السويدي، الذي نشر نصّه هذا عن دار الجديد في عام 1994م، ولكنه مع الأسف لم يلق دراسة تنصفه، وتمنحه مشروعية تواجده بين صفوف كتاب الرواية الإماراتية المعاصرة، نظراً للالتباس الحاصل في لغته الجديدة المصدرة لقارئ نوعيّ مفترض، الأمر الذي دفع البعض للاعتقاد بأنه نصّ يصعب تصنيفه وتجنيسه روائياً نظراً لا نشغال صاحبه بتقنيات كثيراً ما تقترب من لغة الشعر 1 ، وشتان ما بين اللغتين من فارق من حيث البناء والغرض، ولا بدّ لدى تناولنا نصّاً إبداعياً من توظيف معرفتنا الأدبية لتصنيف وتجنيس النصّ، والذي على أساسه سينهض التحليل النصّي، وخصوصاً إذا كان النصّ السردي الذي نحن بصدد تحليله يطرح لغة بديلة فائضة بدلالاتها الرمزية والمعرفية، كبناء تخييلي مواز لواقع معاش أو واقع افتراضي مستقبلي استشرفه الكاتب.
ومن هنا فإن الفارق بين لغة السرد ولغة الشعر هو فارق جوهريّ، وعلى حدّ تعبير باختين أن أية محاولة ترمي إلى تطبيق مفاهيم الصورة الشعرية ومعاييرها على الرواية مآلها إلى الاختناق، وذلك أن الصورة الشعرية بالرغم من وجودها في الرواية، في كلمة المؤلّف المباشرة في المقام الأوّل، ليس لها إلاّ قيمة ثانوية بالنسبة إلى الرواية، هذا بالإضافة إلى أن الصورة الشعرية المباشرة، كثيراً ما تكتسب في الرواية وظائف خاصّة غير مباشرة 2.
وإلى ذلك فإن منظري السرديات العرب والأجانب يتداولون اليوم تعريفاً دقيقاً لمفهوم السرد، وذلك بأن يحتوي النصّ على قصّة ما، تحتوي أحداثاً معينة، وأن يعيِّن السارد الطريقة التي تحكى بها هذه القصّة، وتسمّى هذه الطريقة سرداً، ذلك أن قصّة واحدة يمكن أن تحكى بطرق متعددة، ولهذا السبب فإن السرد هو الذي يعتمد عليه في تمييز أنماط الحكي بشكل أساسي3.
وفي صدد تناوله النصّ السردي وآليات تحليله في المشهد الثقافي العربي، يشير الدكتور صلاح فضل بمرارة إلى أن الثقافة العربية على مستوى التنظير والتنظيم في مجال السرديات بالغة الفقر، مع أنها تعتبر من أحفل اللغات بالنتاج الروائي والقصصي ذي الصبغة العالمية، بحيث توشك أن تضارع آداب أمريكا اللاتينية بطاقتها المدهشة في السرد، التي تبدو وقد استعادت كفاءتها الكامنة منذ نموذج "ألف ليلة وليلة" في تاريخها الوسيط 4، ونحن في هذا المقام نأسف للذهاب بعيداً في التنظير لمسألة باتت من البديهيات، لولا أن بعض الأعمال من مثل الديزل، ما انفكت تلقى تجاهلاً واضحاً، نظراً لاشتمالها على لغة جديدة من جهة، ونظراً لبعض أطروحاتها ذات الطبيعة الإشكالية من جهة ثانية.
1.1.2 ثقافتان متضادتان:
لا أدري لم قفزت إلى خاطري روايتان أثناء قراءتي نصّ "الديزل" لثاني السويدي، وهاتان الروايتان هما: "المعلم ومرغريتا" للكاتب الروسي ميخائيل بولغاكوف، و"ليلة القدر" للروائي المغربي الطاهر بن جلّون، وكلتا الروايتين كنت قرأتهما منذ زمن بعيد يزيد عن خمسة عشر عاماً، وتساءلت، والتساؤل مشروع في هذا المقام عن مدى تأثّر الكاتب بهاتين الروايتين أثناء كتابته نصّه الروائي، إن كان قرأهما فعلاً، ثمّ ما مدى الاقتراب والافتراق من عوالمهما الذاهبة في فضاء واقعي، ولكن السرد بما يمتلكه من قدرة على التخييل والبناء المجازي، يذهب بهما نحو عوالم أسطورية أخّاذة، حققت لهما شهرة عالمية لا تقلّ عن روايات أمريكا اللاتينية لماركيز وساراماغو، وغيرهما، الأمر الذي يؤكّد من الناحية النفسية على الأقل أن ثمة نجاحات حققها النصّ الذي قرأته للتوّ لثاني السويد، وأقصد بهذه النجاحات إمكانية مقاربته لهذين النصّين الكبيرين، وهذا يصبّ في صالح النصّ الذي بناه ثاني السويدي بمهارة واضحة، ولقطة ذكية لا تقل عمّا التقطه بولغاكوف، في "المعلم ومرغريتا"، حيث رصد هذا الأخير الشيطان يغزو مدينة موسكو في زيّ رجل ساحر، وهو إلى ذلك سيبدأ في إغواء الناس عن طريق المال والأشياء التي تنقصهم، ليفسد أخلاقهم المفسودة أصلاً، بينما في "الديزل"، فإننا سنقع على شخصية شبيهة كلّ الشبه بشيطان بولغاكوف، تأتي إلى البلدة الصغيرة لا لتفسد ضمائر الناس بالأموال، بل لتتلبّس بطل الرواية، وتدفعه للقيام بجملة من السلوكات المخالفة للشرع والقيم، ولكنها، مع الأسف، سلوكات برّاقة وجذّابة، تمكنت من أن تؤسس لثقافة جديدة عمادها السلوكات المنحرفة في وسط كان إلى حين عماده المسجد، ومن هنا فإننا سنلحظ تركيز السارد على المسجد كمركز لإنتاج القيم والثوابت، وهو يتعرّض لحملات عنيفة من "الديزل" الذي بات أشهر من الإمام ذاته على حدّ تعبيره في أحد المقاطع.
والصراع في هذا المستوى، إنما يأخذ أبعاداً دلالية تتمركز في مستويين متناقضين: المستوى الأول، هو مرحلة ما قبل النفط، ونمط الحياة الاجتماعية القائمة على الإنتاج البسيط، وما يتمسك به هذا النمط من قيم أصيلة.
والمستوى الثاني، وهو مرحلة دخول النفط حياة هذا المجتمع، على شكل شيطان ساع لهدمه هو "الديزل" ذاته، ولا تخفى دلالات الاسم هنا على أي قارئ.
إن تفعيل الصراع بين هذين النمطين إلى حدوده القصوى من قبل السارد "الديزل"، وتشابك الأزمنة ربّما أوهم كثيرين أن ثاني السويدي كحداثي يسعى لهدم القيم، بينما على العكس، نجده هنا ساعياً لتبيان نواتج الثقافة الوافدة الجديدة على مجتمع لم يكن مهيأً لها أصلاً، فاهتزّ بكامل بنيانه، وهو يتلقى الضربة تلو الأخرى من هذا الساحر العجيب الذي أدّت دوره بامتياز شخصية "الديزل"، التي كانت صادقة مع نفسها وما تطرح، إلى درجة إيهام القارئ بأنها شخصية حقيقية من لحم ودم، وتلك هي مهمة الفنان المبدع.
2 حداثة السرد.. حداثة الرواية.
ينهض المتن الحكائي في "الديزل" على سارد يجلس في مسرح افتراضي، وإلى جواره رجل، سنعرف أنه أبكم بعد قليل، ومع إضاءة المكان، ستبدأ ملامح البلدة البحرية الصغيرة تبدو لنا رويداً رويداً، وعندما تركّز الإضاءة على السارد، سيشير بيده نحو المكان ويقول للشخصية الأخرى "إنني هنا منذ ولدت" كعبارة مفتاحية قد تعني مكاناً، وقد لا تعني ذلك أيضاً، طالما قلنا أن الحيّز المكاني هو حيّز افتراضي من خصائصه أن موضوعتي الزمان والمكان نسبيتان، وكذلك الأمر بالنسبة للأحداث التي تجري فوقه، واقعية كانت أم خيالية، أم بين بين، إنه بعبارة أخرى مشترك مكاني لشخصيات ستظهر لحظة وتختفي، دون أن تفرض على المتلقّي خيار المقايسة الواقعية، لعالم خارج من الحياة يتمثّل في موت الأب، وعالم يدخلها للتوّ مع "الديزل"، وما بين العالمين المرصودين مسافات كبيرة.
والإحالة الموفقة هنا لطقسية الخروج والدخول، إنما هي اللحظة السردية الأولى التي سيقف فيها "الديزل" منتصب القامة، معلناً عن بداية زمنه، وربّما سيتجول قليلاً على الخشبة مستعرضاً مهاراته وإمكاناته كراوٍ وحيد، فيسارع إلى رواية نصّه دون أيّ معارضة، نظراً لأن سامعه الوحيد أبكم، وربّما اختاره كذلك، لأنه لا يريد لأحد أن يشاطره السرد، أن يعترض على مشيئته، فهو ديكتاتور جديد، تبدأ الأحداث به وتنتهي إليه، ولذلك فإنه لن يفسح المجال إطلاقاً لأية شخصية من شخصياته التدخل في ما يرويه، أو الاعتراض على أحكامه القطعية وسلوكاته.
إنها لحظة الانتصار إذن.. اللحظة التي ستصيبه بالنشوة وبالضلالة في آن: "أحسّ أنني أتحدث معك بلهجة إلهية، لا أدري لماذا أنا هكذا اليوم"، ليبدأ إثرها في استعراض محطات أساسية من سيرته الشخصية، ينتقيها بعناية فائقة منذ لحظة ولادته وحتى اللحظة الحاضرة، وهذا يتطلّب فتح إطار سرديّ يبدأ من لحظة ولادته: "في صبيحة أحد الأيام، في مطلع شوّال، زفّ إلى والدي خبر ولادتي، كان عائداً من البحر في ثيابه المحترقة بالبحر.. كان ثوب الصياد الجميل يعبّر عن فرحته.. أخذ والدي يتدحرّج، ويصرخ بصوت عال: إن القدم الحافية هي التي يعطيها الله كلّ شيء تتمناه."
وهكذا فإننا عبر هذا الاستهلال الأولي سنتعرف إلى جملة من الأشياء المؤسسة للفضاء الروائي والدلالي، فوالده صياد، لم تسعه الفرحة لدى سماعه بولادة ابنه، بعد سبع سنين عجاف من ولادة ابنته، الأنثى غير المعترف بها، وإلى ذلك، فإنه سيعتبر هذا اليوم بمثابة فجره الأوّل، الذي سيعيد للأشياء طعمها الحقيقي، بعد أن كاد اليأس يودي به وبأسرته.
ولن يستمر السارد أو "الديزل" في مواصلة حكايته طويلاً، وإنما سيمنح نفسه كلّ حين استراحة نفسية، يتّجه خلالها لمنتصف الخشبة حيث تستهويه الخطابة دوناً عن السرد الإخباري الذي كان بدأه للتوّ، وربّما لاستعراض مهاراته في فنّ القول، أو لتطويل المتن السردي، على غرار الروائيين التقليديين الذين كانوا يملأونه بالوصف، وهنا سنجده يلتفت إلى جاره، الممثل الأبكم والمستمع الوحيد له: "ماذا أقول أيها السيّد الجار، فكلّ آهات العالم المصطنعة تصرخ من تعب حطامها، أما آهاتي فتصرخ من جنون تعبها زمناً نجهله، ويجهلنا...إلخ" 5، وربّما أن هذه الإقحامات الخطابية للمتن الحكائي، هي التي أفضت بالبعض لأن يعتبره بمجمله خارجاً عن تقاليد السرد، وهو ليس كذلك قطعاً، وربّما لأنها روايته الأولى، فإنه لا بدّ من توافر الأخطاء بهذا الشكل أو ذاك، بهذه النسبة أو تلك. ولكن مأثرة الإقحامات هذه، أنها ستمنحنا فرصة لتأمل ذات هذا الشاعر، وأثر اللغة في تكوين رؤيته للواقع والحياة من جهة وللخيال من جهة أخرى، حيث إن السارد هنا يمتلك سيّالة لغوية وقدرة بالغة على إنتاج الكلام، كما إنه في الوقت نفسه يعاني من تشكيل فضائه الروائي، نظراً لأنه منذ البداية قرر أن يستأثر بالحكي، فلا شخوص ولا من يحزنون، كلّ شيء بأمره ورهن مشيئته، ومن هنا فإن الإتكاء على اللغة الشاعرية الرمزية، والعناية برصد فضاءات عجائبية وأسطورية، كانت بمثابة البديل لهذا لعيب الفنّي، الذي جاهد طويلاً في إخفائه.
وربّما أن هذه الفضاءات العجيبة متناصة عن السردية الشفاهية، وخصوصاً مشهد العناكب، والصيد المجفف، وعلاقة العناكب وأسماك البحر بأخته، وكان الروائيّ علي أبو الريش قد أورد مثل هذه الفانتازيا السردية في روايته، ثنائية مجبل بن شهوان 6، وهي ربّما مرويات شفاهية لمجتمع الصيادين الذي ينتميان إليه: "الغريب في ذلك أنّها في يوم من الأيام قرّرت أن تنام على حافة الجدار. وعلى نفس المكان الذي وقفت عليه العناكب، ظنّت أنها قد تشمّ رائحة الخثاق المبعثرة في الهواء السابق، ثمّ تتوحّم به وتلد جداراً أسود... تقدمت نحو الماء قليلاً، ابتلت قدماها، تقدّمت حتى منتصف جسدها، كان ماء البحر دافئاً والقمر يلقي خطبة حول ذروة جسدها، أحسّت أن ماء البحر الدافئ يثرثر بين فخذيها، أغمضت عينيها فترة طويلة، شيء ما ينزف منها، نظرت إلى أسفل قدميها، وجدت كومة من الأسماك تدور حولها، ظنّت أن هذه الأسماك أطفالها، خرجت من البحر حاملة أضلع فرحها، تصرخ: يمكنني أن أتزوج أيّ شيء على وجه الأرض، لأني مختلفة عن نساء العالم، لأنني ألد من دون أن أحمل... ثمّ نظرت إلى البحر، فرأته أباً مستقيماً، فهمست له سأهزمك 7" والجميل في هذه الحكاية الإضافية أنها تنفتح ببساطة وعفوية على العجائبي، وفي الوقت نفسه تعبّر عن صراع المتضادات بين الأنوثة والذكورة، صراع سلميّ هدفه الحياة والحياة والإحيائية، الأمر الذي يعكس وعي السارد بهذه المستجدات الفكرية والثقافية التي بدأت تبزغ من بين عتمات النظام الكوني الجديد، لتبثّ الأمل من جديد في إمكانية الأصوات الجديدة من إعادة إنتاج تراثاتهم بما يمكّن هذا العالم من تجاوز عتمته.
الحبكة الرئيسة في نصّ "الديزل" تبدأ في نسج خيوطها من لحظة لقائه الأول مع الغريب، وإلى ذلك فإن السارد وعلى غير طرائق الاحتشام في السرد التقليدي، سيبدأ في نبش المسكوت عنه، فلا يسعى إلى التستر أو الهروب، ولطالما ألبس بطله ثوب الشيطان، فإنه سيزجّ به في المعركة، لتبيان أثر الثقافة الجديدة في الكشف عن شدّة وصرامة تقاليدنا الاجتماعية من جهة، وبساطتها وعفويتها من جهة ثانية، وربّما هو حقل ممتلئ بالألغام، إلاّ أن الفضائيات بما تبثه من أفلام، والروايات المترجمة المنشورة، وغير ذلك من فكر الحداثة، بات النظارة والقراء العرب يطلعون عليه، فمن الواجب بهذه الحال، أن تعبّر الرواية عن ذلك وبالجرأة ذاتها، وإلاّ، فأنها ستبقى عاجزة وغير قادرة على أن تتبوأ مكانتها في حقل الرواية العالمية، وإلى ذلك، فإنه يتوجّب على النقد في مثل هذه الحال، أن يمارس دوره النقدي بموضوعية، وأن يتعامل مع النصّ كنصّ، ومن داخل منطقة الكتابة، وليس من خارجها.
1 انظر موقع "مرايا" ، عن الرواية في الإمارات.
2 في هذا الصدد انظر ص296 من كتاب "بلاغة الخطاب وعلم النصّ. د. صلاح فضل، سلسلة عالم المعرفة الكويتية، العدد 164 أغسطس، آب، 1992.
3 انظر ص 45 من "كتاب بنية النصّ السردي من منظور النقد الأدبي. د. حميد لحمداني، المركز الثقافي العربي، بيروت، 1991، وإلى ذلك أيضاً يمكن مراجعة ما كتبه كل من الدكتور عبد الله إبراهيم، والدكتور سعيد يقطين في هذا الحقل المعرفي.
4 انظر ص 275، من "بلاغة الخطاب وعلم النصّ. مرجع سبق ذكره.
5انظر الفقرة الأخيرة من ص8. من الديزل.
6 انظر ص135 من كتابنا "مرايا البحر" مرجع سبق ذكره.
7 انظر ص 14 و 15 من الرواية.